السبت، 14 فبراير 2015

قراءة في قصيدة " أشرعة في وجه الريح " للشاعر شكري مسعي :: إعداد .أ // محمد كباشى



قراءة في قصيدة " أشرعة في وجه الريح " للشاعر شكري مسعي :
قصيدة الشاعر شكري مسعي :
و يكبر المحال
أتعلمين ما الذي يعيد للعيون سكّر الفصول
و ما الذي يورّد البريق في المآقي و البحار
و ما الذي يعطّر مواسم الكلام
و ما الذي يرتّق الجراح في المحار
و ما الذي يعتّق سلافة الحرام
جنوننا اللّذيذ
يقيننا الممزّق على ذرى الفطام
و ألف ألف موتة يرجّها احتضار
و بعض ما نخبّئ لرحلة الغرام
أتعلمين كيف صرنا نطلب المحال
و نسأل الضياء أن يعاشر الظلام
و تستحي النساء من برودة الرجال
و يخجل الصغار من تفاهة الكبار
يحدّق الجراد في شرانق الغصون
و اللّيل بالمعاول يمزّق النهار
و ينثر الرماد في محاجر العيون
ربيعنا حطام
و عمرنا ركام
جنوبنا ممزّق يرجّه السؤال
إلى متى يعربد بكونه الضلال
و تنبت من عينه شرانق الظنون
إلى متى تُوجّل مواسم السلام
و شرقنا كغربنا
جنوبنا شمال
إلى متى تخيّم جحافل الهوان
بعمرنا الحزين
و يكبر أطفالنا و يكبر المحال
أتعلمين أنّنا نباع في المزاد
و أنّك رهينة لموسم الفساد
رعاتنا .. حماتنا قد أخلفوا العهود
و باعوا للغريب تبر أرضنا الحلال
و أعدموا الشهود
و أرضنا الجريحة نزيفها رعود
و جرحها حكاية تقصّها الجبال
تشيّب الرضيع
و تزرع المواجع و تنحر الرّجال
أتعلمين معنى أن نعيش معدمين
و نلبس التعاسة بغربة الوجود
و أرضنا سبيّة و عمرنا سراب
و معنى أن نهجّر
و نشرب العذاب
و معنى أن تكون حياتنا خراب
و معنى أن نضيع في زحمة الضباب
كأنّنا خلقنا كي نموت مرتّين
و موتنا يردّد حكاية الدّمار
يا أيّها الخريف..
لماذا كلّما نطقتَ تصفع الشّجرْ
و تذبح الغصون ، و الورود و الزّهرْ
و تشرب الرحيق من عصارة المطرْ
و تغرق الضرير منّا تدهس الضعيف
أهذه حياتنا أم نحن في ضياع
أهذا حلمنا الذي من أجله نباعْ
ربيعنا مؤجّل ربيعنا دموع
و أرضنا سبيّة قد رجّها الكدرْ
يا أيّها القدرْ ..
لماذا تكبر المواجع و يأفل القمر
هل نحن يا ترى حقيقةً بشرْ
لماذا كلّما ضحكنا نذرف الدموع
و كلّما فرحنا و ابتسمنا للضياء
تعيدنا النهاية لموسم الرجوع
لحزننا .. لموتنا .. للحظة الشقاء
لماذا كلّما حلمنا أن نكون
أن نرسم الربيع في المآقي و العيون
تدوس حلمَنا الرياح و الصقيع
و تشمت بعمرنا مواسم الفناء ..؟؟
" لماذا يطلقون على شكري مسعي لقب أمير الشعراء ؟ " سؤال طرحه عليّ ابني الصغير ذو العشر سنوات و هو يشاهد أوراقي المبعثرة على السرير و أنا بصدد قراءة هذه القصيدة الرائعة و إعداد هذه الانطباعات عنها ، فأخبرتُه أنّ أمير الشعراء هو شوقي أمّا شكري فهو أحد الأمراء البارعين في مملكة الشعر .
عندما قرأتُ القصيدة " أشرعة في وجه الريح " أوّل مرّة شدّتني إليها كثيرا لجرأة لغتها و تصاويرها ، و رصانة معانيها البعيدة عن الإسفاف ، و صحّة عروضها و عذوبة موسيقاها ، فكان انطباعي الأوّل أنّني أمام قامة سامقة في ميدان الشعر . و ما لفت انتباهي وجود خيط يصلها بـ " أنشودة المطر " للسيّاب ، و هذا أمر شائع عند أكثر الشعراء في اقتباسهم من سابقيهم أو معارضتهم لفرائد الأقدمين ، و في حالة " أشرعة في وجه الريح " قد يكون الأمر تواردَ خواطرَ نادرا بين شاعرين نهلا من معين واحد و صهرتهما تجربتان متشابهتان ، أو هو تأثّر اللاحق بالسابق كما كان عليه الحال عند البحتري و أستاذه أبي تمّام ، أو البارودي مع أبي فراس ، أو شوقي مع ابن زيدون .... ؛ تتقاطع القصيدتان في الكآبة و الحزن المخيّم على النصّين ، و في القاموس اللغوي ( المحار ، الظلام ، مطر ، أتعلمين ، ... ) ، و في الموسيقى إذ بنى كلّ منهما نصّه على الرجز ، و ختم أسطره بقافية مقيّدة .
العنوان في كلّ نصّ هو عتبته الأولى التي تشفّ عن الداخل ، و هو بنية دالّة على المضمون ، و لم تشذّ قصيدة المبدع شكري مسعي عن هذا ، فجاء العنوان " أشرعة في وجه الريح " معبّرا عن عجز الضعيف في مواجهة التحديّات و المثبّطات للوصول إلى برّ الأمان رغم محاولاته اليائسة أمام قهر الواقع و جبروته .
و لطول القصيدة سأتوقّف عند بعض المعاني ، و لعلّ أوّل عبارة تستوقف القارئ في النصّ ( و نسأل الضياء أن يعاشر الظلام ) ، فالمجتمع لا يطلب المحال و لكنّ السلطَ المتحكّمة ترفض إعطاء الشعب حقَّه و تجعل أمنياته مستحيلة صعبة المنال ، فيتحوّل الممكن إلى مستحيل بسبب عجز المجتمع الضعيف و تسلّط المستبدّ القويّ ، و يُصدَم القارئ ببعض العبارات ( و تستحي النساء من برودة الرجال ) إذ تبدو العبارة للقراءة الأولى نابيّة خادشة ، لكنّ المتمعّن فيها سيكتشف أنّ المبدع شكري مسعي لا يتكلّم عن عجز العربي عن ممارسة الحبّ و مطارحة الغرام بل تشرّح حالة الإنسان الذي صار عاجزا عن إحداث التغيير المطلوب و الوصول بواقعه إلى الكمال المرجوّ عجز العنّين عن الوصول بالحبّ إلى لحظة النشوة .
هذا الهمّ ليس حالة فرديّة معزولة يعيشها فرد واحد أو مجتمع واحد ، بل عمّ الربوع و شمل العباد ، هذا ما يشير إليه الشاعر شكري مسعي : ( و شرقنا كغربنا ... جنوبنا شمال ) ، و ما زاد من حدّة الوجع و تفاقم الخطب حكّامنا الذين يُفترَض فيهم أن يكونوا حماةً لنا خادمين لمصالحنا ، لكنّهم عونٌ للغريب يمنحونه غلال البلاد و خيراتها و يعدمون كلّ مخلص لشعبه محبٍّ له راغبٍ في صلاحه ( و باعوا للغريب تبر أرضنا الحلال .... و أعدموا الشهود ) .
و أينما تلتفتْ فوجعٌ و همّ و غمّ ، و لا يلوح في الأفق ما يبشّر بانقشاع الضباب و قدوم الربيع ، حتّى الحلم في غد أفضل ممنوع في وجود كلّ هذه المآسي و الأوجاع ( لماذا كلّما حلمنا أن نكون ... أن نرسم الربيع في المآقي و العيون .. تدوس حلمنا الرياحُ و الصقيع ... و تشمت بعمرنا مواسمُ الفناء ؟؟ ) .
و إذا تأمّلنا القصيدة من ناحية المبنى سنجدّ أنّ المعجم اللغوي الذي استخدمه الشاعر شكري مسعي منسجم مع حقل الوجع و المعاناة ، إذ جاءت أغلب الألفاظ مسايرة للمعاني ، مثل ( الجراح ، الممزَّق ، موتة ، احتضار ، المواجع ، خراب ... ) .
و لحضور الأساليب الإنشائية من استفهام و نداء ( أتعلمين ؟ .. ما الذي ؟ .. لماذا .. ؟ .. يا أيّها الخريف .... ) دلالة على الحالة النفسية للشاعر المحبطِ الناقمِ على الواقع غيرِ المستبشر بالمستقبل ، كما ساهمت هذه الأساليب الإنشائية في الارتقاء بالنصّ من رتابة الإخبار المملّة و أشاعت فيه كثيرا من الحيويّة و الحركة و النشاط .
الصورة الشعرية عند الشاعر شكري مسعي هي نفسها التي كان يستخدمها الشاعر القديم من تشبيه ( .. حياتنا خراب ) ، و استعارة ( نسأل الضياء أن يعاشر الظلام ) ، لكنّ اللافت أنّه يوظّفها بجرأة نادرة ، فأنت بحاجة إلى إعمال الذهن لتهتدي إلى العلاقة بين اللفظ المذكور و المعنى المُرام ، كقوله : ( أرضنا سبيّة ) إذ جعل فيها بلادنا جاريةً معروضة للبيع في سوق النخاسة ، و على هذا المنوال من الجرأة سار الشاعر في أغلب صوره و أخيلته ( تدوس حلمَنا الرياح و الصقيع ) و ( تشمت بعمرنا مواسم الفناء ) ، و هناك القليل من الصور التي نهج فيها الشاعر نهج الأقدمين لفظا و مقصدا ( تشيّب الرضيع ) .
للطبيعة نصيب وافر في قاموس الشاعر شكري مسعي ، و لا غرابة في هذا ، فالشاعر مسعي ابنُ تونس الجميلة الخضراء التي فتنت قبله الشابي بسحرها فكان مزيجا رائعا بين الثورة و الرومانسية ، و لا يختلف الابن ( مسعي ) كثيرا عن الجدّ ( الشابي ) في الرومانسية الثائرة ( البريق ، المحار ، الضياء ، الظلام ، أرضنا ، الجبال ، سراب ، الضباب .. ) .
بنى الشاعر مسعي قصيدته على بحر الرّجز ذي التفعيلة الواحدة ( مستفعلن ) ، و قد مسّتها مختلف التغيّرات من زحافات و علل ، فوردت أحيانا مزاحفة بهذا الشكل ( متفعلن ) ، و أحيانا وردت مزاحفة معلَّة ( متفعلُ ) ، و بالرّغم من كثرة جوازات هذا البحر و اقترابه من النثر إلّا أنّ المبدع مسعي ارتقى به و جعله نابضا بالموسيقى منسابا بيسر و سلاسة .
و خلاصة القول : نحن أمام ظاهرة شعرية امتلكت أدوات الشعر من لغة جريئة خارجة عمّا ألفه القدماء من سياقات ، و معان جادّة رصينة ، و صور و أخيلة تجلي المعنى و تداعب وجدان المتلقّي ، و عروض سليمٍ سلس عذب .


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

music