السبت، 24 يناير 2015

(( برنامج نص وقراءة )) إعداد أ // شكري مسعي





الحلفة الأولى من برنامج " نص و قراءة "
قراءة نقديّة تحليليّة لقصيدة : لشفتيك ِ عبق شعري
للشاعر " علي مبروك "
النصّ /
أ حديقة َ الأشعار ِ إنّي أرتجف ْ
فالغوص ُ في بحر ِ الشفاه ِ مهندم ٌ
و اللّيل ُ عتق ٌ يعتكف ْ
فوق الفتات ِ معبّأ ٌ
بعبيرِ شوق ٍ منتعش ْ
و رضاب ُ بوح ٍ ثائر ٍ
قد يصطفينا ليلة ً
حين التحفنا قرية ً
من وجد ِ نبض ٍ يعترف ْ
أنّ الخمائلَ كلَّها
قد بايعتْني لحظة ً
حين اقتفينا عشقنا
صوب الشراشف نلتحف ْ
خمرا ً توارى بيننا
و العصف ُ طاف َ كتابنا
بشراع ِ خصر ٍ نائم ٍ
بين الأرائك حولنا
يروي ضلوعا ً تنتفض ْ
أوّاه يا عبق َ الهوى
كم حاصرتنا غابةٌ
و عويل نهر ٍ عابث ٍ
شجَّ الحناجرَ ينتعشْ
لكنّ عشبي طارحٌ
ما بين نهديِّ الجوى
و أريج ثغر ٍ مختلف ْ
القراءة /
لأن النص ينتمي إلى الشعر الحر فهو متعدد القراءات، ولأن وسائل الاستقراء للنص تتأسس وفق علائق المنهج البنيوي بالنص، وحتى يتم تأسيس رؤية تحليلية وفق وسائط المنهج المتقدم، فإن المنهج البنيوي يحيل القارئ إلى الحرية في اكتشاف عوالم النص الذي يتسم بأنه نص مفتوح .
وفي البدء نتجه نحو عنوان القصيدة ( لشفتيِك عبق شعري ) الذي نراه متعدد الدلالات مستوعب المعاني مختزل الألفاظ،من خلال الاستعارة الجميلة للحبيبة، أو للكون الشعري العابق.. أو أي شيء آخر يحتمله العنوان ويجتهد فيه القارئ...
القصيدة تنخرط في نمط ايقاعي فريد و استثنائي ..تجري على بحر الكامل بشكل مختلف ..المقطع الأول الذي شمل البيتين الأول و الثاني جاء على بحر الكامل التام / متَفَاعِلُن / متْفاعِلُن / متْفَاعِلُن ـ :
أ حديقة َ الأشعار ِ إنّي أرتجف ْ
فالغوص ُ في بحر ِ الشفاه ِ مهندم ٌ
أمّا بقية الأبيات من المقطع الثاني فجاءت كلّها على مجزوء الكامل بحذف تفعيلة ..و هذا اختيار فرضته نغميّة القصيدة التي هي في الأصل موسومه بلحن يجعل منها قصيدة غنائية ..شكـّلها الشاعر من أحاسيس وجـدانــية ..فمثـّلت ، نشيــدا عاطفيا وجدانيا لكـل عاشـق ولهـان، آسرته فطرة الهـوى، والتلـذذ بحالتـه المعـذّبــة، على اعــتبار أن الهـوى عند الشاعر له طقوسه الخاصة و تراتيل مخصوصة ..
بدأ السطر الأوّل بحرف نداء ( الهمزة ) أ حديقة الأشعار...منادى ليس بشرا بل كونا جميلا فيه ما فيه من جمال ..( حديقة الأشعار) ..عندما يصبح الشعر ملاذا و محجّة و خيمة تستكين فيها نفس الشاعر و تطمئنّ بين زواياها ..
عندها فقط يصبح الغوص في بحر الشفاه مخاطرة و موت مشتهى ..هو عشق استثنائيّ ..حالة من الوله البكر ..تهويمة في كون العشق الغريب .. أشبه بحالة- العشق الفريد- لذلك تبقى مكنونات هذا الهوى دفــينـــة في لحظات التماهي مع المعشوقة و روحها ..حالة تنوء بالشاعر العاشق يفجـّرها في لحظة ما ..فيها نوع من الحلول في ذات المحبوب تأسّيا الشعراء الصوفيين ..
و اللّيل ُ عتق ٌ يعتكف ْ
فوق الفتات ِ معبّأ ٌ
بعبيرِ شوق ٍ منتعش ْ
إنّ الشاعر ينطق بما يختلج في روحه من إحساس عميق بلحظة للتوحّد مع المحبوبة تصل إلى درجة كبيرة من الوله و الانتشاء .. هنا، يستوقفنا الشاعر مع دفق المشاعر التي تكبر بوجدانه و و جدان حبيبته فيشترك الاثنان في صنع لحظة التوحّد العشقيّ تحرّرا من قيود التقاليد الرقابيّة ..لحظة يعيش فيه الحبيبان عمرا من الوله الكبير.. و يبدو أنّ الشاعر يشعر بعذوبة الحب ّفي نفسه المجهدة ويشعر أن القوافي تورق حقا إبداعا وإلماعا ومزية وعذوبة وسحرا :
حين اقتفينا عشقنا
صوب الشراشف نلتحف ْ
بمعنى أن التوحّد وصل حدّ الشبقيّة المتوهّجة ..
و العاطفة في القصيدة جارفة و فاضحة ..إنّها جريئة إلى حدّ الانكشاف ..إمعان في البوح الاباحي المحموم ..إذ تتنوع العاطفة بين الصدق والاندفاع الجارف ، بين التعبير عن مكامن الذات ومظاهر الحديث المشحون بالعواطف الثائرة ، بين الصمت والبوح ، بين حقيقة المشاعر وما يختزنه وجدان الإنسان المحبّ من وله وثورة وتمنٍّ وخيال .. ولم يكن المورق لها سوى ذلك الحب الذي يعيشه وينشده ولم يكن الإيراق سوى أشواق ندية مشوبة بآماله ومآربه العذبة الصافية
وكم كانت تلك الأشواق تتدفق كالنهر الفرات عذبا .
بشراع ِ خصر ٍ نائم ٍ
بين الأرائك حولنا
يروي ضلوعا ً تنتفض ْ
و تنطلق اللّغة المحمومة المتولّهة الملتاعة تحكي ما يعانيه الشاعر من وجْدٍ و التياع و جوى و رغبة و أمنيات .. أمّا الخيال في النصّ فيعانق الإطار العاطفي المشحون بحيث تطالعنا صور محتشدة ولوحات متلاحقة يجود بها خيال الشاعر الخصب والمتسم ببعد التصوّر..
أوّاه يا عبق َ الهوى
كم حاصرتنا غابةٌ
و عويل نهر ٍ عابث ٍ
شجَّ الحناجرَ ينتعشْ
صحيح أن بعض الصور عادي محسوس .. ولكن يبقى في بعضها جمال وبهاء يدلان على جنوح المخيلة وتنامي المقدرة على التصوير..و انتقاء المفردات المكثّفة المحمّلة بغزارة الدلالات ..و قوّة المعاني..و الاستعارات الفريدة :
بشراع ِ خصر ٍ نائم ٍ/ و عويل نهر ٍ عابث ٍ..
هنا تخرج الصورة عن كونه العادي المعرف لتعانق جمالا و تفرّدا و استثناء ... والقصيدة بمعانيها وعواطفها وصورها ، نتاج متوازن للقوى الأدبية جاء في صياغة متميزة بالرقة والسلاسة ..فالجمل التي تأسّس عليها القول الشعري توزّعت بين الاسمية الطاغية على مساحة النص بنسبة فاقت الستين بالمائة ..و هذا الكمّ الذي اختاره الشاعر من الجمل الاسمية لم يكم اعتباطيا فتوصيف اللحظة و تقديمها في صورها النابضة يفرض الايغال في اسمية الجمل .. على أنّ الجمل الفعلية لم تفقد بريقها و جدّتها و دورها الدلالي ..( قد يصطفينا ليلة ً/ قد بايعتْني لحظة ً/ يروي ضلوعا ً تنتفض ...) .. وكان واضحاً على حركية الجمل الفعلية ارتباطها بزمن الحضور أكثر من سواه، حتى الأفعال الماضية إنما جاءت من أجل معاضدة التشكل الزماني الحاضر، وتخفق الحركة في الوصول؛ لتضافر قوى السكون التي أحبطت استمرار الحركة المتعثرة التي تتخذ من الحلم مجالا لها، ومن ثم يكون الارتداد عقب ذلك إلى نفي الحركة إلى الثنائيات التي استخدمت في النص، ولكن الحركة إذ تنكسر كل مرة تعود لتنطلق من جديد في أجزاء القصيدة في مقطعها الأخير :
لكنّ عشبي طارحٌ
ما بين نهديِّ الجوى
و أريج ثغر ٍ مختلفْ
هذا إلى جانب ما توفّر من جرس وإيقاع متناغميْن يتركان أثرا في نفس السامع ، وبخاصة عند الإحساس بالوزن الفخم المختار والقافية اللينة الممدودة .. لقد أجاد الشاعر تحقيق التآلف بين مختلف عناصر الأدب ومن فكرة وعاطفة وصورة .. وبرع في الصياغة والملاءمة بشكل طبيعي وعفوي يشفّ عن ذوق رفيع وفهم وتعمق وإحاطة باللغة التي أتقنها .. يقوم النص في بنائه الصوتي على بروز نسقي لعدد من حروفه من خلال بروز الفاعلية الصوتية لبعض حروفه ، و هذا البناء الصوتي يعكس عمقا دلاليا في استجابة الأصوات لموضوع القصيدة التي أسس لها الشاعر.
ينبغي الإقرار و الاعتراف بجمالية النص الباذخة وسلطته الحاضرة التي هيمنت بكل تفاصيله الدلالية و هو ما يؤكّد حقا قدرة الشاعر الرائع الأستاذ " على مبروك " على تشكيل عالم الاحساس بقدرة فائقة و على بناء كونه الشعري العشقيّ بامتياز ..يمنحنا بوحا شفيفا زاخرا بمعاني الروعة و الألق ..





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

music